هناك فضيلة تلزم لكل إنسان ، آياَ كانت درجته ، ما أسهل أن يضل وأن ينحرف هذه هى فضيلة مٌحاسبة النفس
أليس من العار أن نجتهد كثيراً فى محاسبة غيرنا من الناس، بينما أنفسنا لا نحاسبها
نفترض مثاليات عالية نضعها أمام الأخرين، وإن تخلفوا عنها ولو قليلاً ، ننصب لهم الموازين، ونكيل لهم الإتهامات، ونحاسبهم حساباً عسيراً، كأننا مسئولون عن كل أعمالهم … أما أنفسنا، فنادراً ما نضعها تحت الحساب
بينما فى حقيقة الأمر نحن أقدر على محاسبة أنفسنا لا غيرنا… أنفسنا معنا فى كل حين، نعرف جميع خبايانا، وجميع نواياها، وجميع ظروفها وأحوالها، ونعرف كل أعمالها وأفكارها، لذلك نحن نقدر على محاسبتها، ونكون عادلين فى حسابنا لأنه من معرفة يقينية أما غيرنا، فلا نعرف دواخله، ولانعرف ظروفه وقد نظلمه فى حكمنا. وما أصدق قول الكتاب
(( لا يعرف الإنسان إلا روح الإنسان الساكن فيه)).. فليتنا نحاسب أنفسنا لا غيرنا
ليتنا نحاسب أنفسنا بدلاً من أن يحاسبنا الناس. ما أجمل قول القديس مقاريوس الكبير :(أحكم يا أخى على نفسك، قبل ان يحكموا عليك) ..ويقيناً أننا لو حاسبنا أنفسنا، وعرفنا أخطاءنا، سوف لانتضايق من محاسبة الناس لنا، وسوف لانغضب منهم، بل نقول – ولو فى داخلنا-(( نحن بعدل جوزينا))
بل ليتنا نحاسب أنفسنا، قبل أن يحاسبنا الله فى اليوم الأخير. إن محاسبتنا لأنفسنا، تقودنا إلى التوبة، إذ ندرك واقع سقطاتنا فنتوب عنها ونتركها، والتوبة تمحو الخطايا، وتستمطر مراحم الله، وتوقفنا بلا دينونة فى اليوم الأخير
ومحاسبة النفس تقود الإنسان إلى الإتضاع، وتبعد عنه الغرور والكبرياء .. إنما يتعجرف الإنسان الذى لا يدرى حقيقة ذاته، ولا يعرف نقائصه وعيوبه … أما الذى يحاسب نفسه، وتنكشف أمامه خطاياه وسقطاته وضعفاته، حينئذ يدرك أنه أقل بكثير مما كان يظن فى نفسه، وتتضع نفسه من الداخل وان حاولت أن ترتفع يذكرها بما اكتشفه فيها من عيوب
ولكن كل ذلك يتم، إن كنا دقيقين فى محاسبتنا لأنفسنا، غير مجاملين لها، وغير ملتمسين لها الأعذار فى كل شىء
حقاً، ينبغى أن نكون حازمين فى محاسبتنا لأنفسنا. ولا يصح أن نغطى كل ذنب بعذر، ولايصح أن نبرر ذواتنا فيما نرتكبه من أخطاء، لايصح أن نلقى اللوم على الظروف أو على الآخرين أو على الضعف البشرى، ولا ان نخفى خطايانا وراء نيات حسنة. بل نكون صرحاء مع أنفسنا، غير مجاملين لها، ولا مدللين لها
فلنكن مدققين جداً فى محاسبتنا لأنفسنا، عطوفين جداً فى محاسبة الآخرين. لاننا لا نعرف ظروف الآخرين، فربما يكون لهم عذر. كذلك لا نعرف تكوينهم النفسى والعصبى، ولانعرف كل ظروفهم العائلية والإجتماعية والصحية والوراثية. أما من جهة أنفسنا، فندرك أنها بلا عذر، ونعرف تماماً مقدار الإرادة الخاطئة فى عملها، ومقدار تداخل الظروف
وفى محاسبتنا لأنفسنا، ينبغى أن نحاسبها على كل شىء .. على العمل الخاطىء، وعلى مجرد النية الخاطئة، وعلى أخطاء الفكر والحس واللسان والشعور، وكل شىء.. ونحاسبها أيضاً على علاقتها بالله وبالناس.. ونحاسبها على مدى النمو فى حياتها الروحية. ولايكفى أن يكون الإنسان بعيداً عن الخطية، إنما يجب أن يكون سائراً فى الفضيلة ونامياً فيها
ينبغى أن نحاسب أنفسنا فى ضوء مقاييس الكمال المطلوب منا. وهنا نوضح انه كلما كان الإنسان نامياً فى معرفته الروحية دارساً لحياة القديسين والأبرار، متعمقاً فى فهم الفضيلة، فعلى هذا القدر يكون مستوى محاسبته لنفسه عالياً. إن أصحاب القامات الروحية العالية يحاسبون أنفسهم على أخطاء قد لا يراها غيرهم أخطاء، ولكنها فى نظرهم كذلك بحسب نموهم الروحى
إن الله أعطى لكل منا ضميراً يحاسبه. وبعضنا يحاول أن يسكت هذا الضمير، وبعضنا يحاول أن يميته، وبعضنا يهرب منه، وبعضنا يحاول أن يتحايل على ضميره بحيل عقلية لتبرير مسلكه.. ولكن الإنسان الصالح هو الذى يخضع لتوجيهات ضميره ويحنى نفسه لمحاسبته، بل يجعل هذا الضمير سيتنر أكثر وأكثر، ويكون مرهفاً أكثر وأكثر، بالدوامة على القراءة الروحية والتأمل فى الفضائل
لذلك ننصحك بإستمرار أن تكون رقيباً على نفسك . لا تجعل شيئاً من تصرفاتك أو من نواياك يفلت من مراقبتك. لا تترك دوامة المشغوليات تجرفك وتجعلك تنسى نفسك، فتقلل من مراقبتك لها. وأتبع هذه المراقبة، بمحاسبة ، وبمعاقبة ، إن إستلزم الأمر
قل لنفسك ما يخجل الناس من قوله لك. ربما تجرحك كلمة صريحة يواجهك بها الغير، ولكنك تستطيع أن تقول هذه الكلمة لنفسك. بل تستطيع أن تبكت ذاتك، وأن توبخ ذاتك، وأن تقوم ذاتك وتؤدبها، فهى تخضع لك
لاتترك نفسك على هواها، تسير حسبما تشتهى، دون رقيب أو مؤدب ..و أعرف أنك خير قاض يحكم على نفسك، وأعرف أن الشخص المجتهد فى محاسبة نفسه، وإنما هوا لشخص الحريص على خلاص نفسه، الحريص أن يحفظ ذاته نقياً من كل شائبة ومن كل لوم
ومحاسبة النفس تقود إلى الصلاة وإلى الإعتراف… إن حاسب الإنسان نفسه، ووجدها قد أخطأت إلى الله أو إلى الناس، عليه أن يكسب ذاته أمام الله، ويعترف له بهذا الخطأ، ويطلب منه المغفرة، ويطلب منه أيضاً القوة على تجنب هذا الخطأ . وعليه أيضاً أن يعترف لمن أخطأ إليه حتى يكسب رضاه ويصفى قلبه من جهته … إلى باقى عناصر الإعتراف الأخرى
ولعل البعض يسأل : متى يتاح للإنسان أن يحاسب نفسه! إن البعض يحاسب نفسه فى مناسبات معينة، كأن يجلس فى بداية سنة جديدة ويحاسب ذاته على سلوكه خلال السنة الماضية كلها، والبعض يحاسب نفسه فى نهاية كل يوم، قبل أن ينام. والبعض يحاسب نفسه على كل فعل بعد هذا الفعل مباشرة، قبل أن يفقد تأثيره
ولكن أفضل الناس هو الذى يحاسب نفسه على العمل قبل أن يعمله. فيسأل نفسه : أيجوز لى أن أفعل كذا أو أن أقول كذا؟
وإن فعلت هذا الأمر ألا أرتكب كذا وكذا من الإثم ؟ وهكذا يتجنب الفعل الخاطىء، ويتجنب ما قد يسببه هذا الفعل من نتائج لاتليق…
إن محاسبة النفس تقود الإنسان إلى حياة البر، أوعلى الأقل إلى حياة التوبة. وفى أقل القليل تقوده إلى حساسية الضمير وإلى يقظة القلب، وإلى التواضع والإنسحاق.